لقد جاء عصر الكمبيوتر، وفيما بعد النشر الإلكتروني ليضيف خصائص تقنية للقراءة، لكنها لم تكن محايدة أي أنها أثرت على الخصائص السابقة للقراءة وعلى تصنيفات القارئ أيضًا. إن أهم ما يميز القراءة أن الشاشة تقنيًا، هو هذا الضوء المنبعث منها فلم تعد القراءة متعلقة بالضوء المحيط، بل إنها أنتجت ضوءها الخاص وهو ما يترك أثره على التلقي البصري للنص (والصورة نص بصري كذلك)، وبالتالي على العين. وحتى الآن لم أجد بالعربيةأبحاثًا حول تأثير الشاشة على العين، ولم يذكر أي فارق طبي بين القراءة من الشاشة وبين القراءة من الكتاب، وذلك حسب درجة الضوء، وفي استشارتي للعديد من الأصدقاء الأطباء ومنهمأطباء عيون لم يؤكدوا وجود تأثير مغاير للضوء المنبعث من الشاشة إلى العين عن الضوء الذي تعكسه صفحات الكتاب.

إلا أن القراءة من الشاشة تحكمها عدة عوامل أخرى غير الضوء، وتتميز بخصائص تخصها وحدها يمكن تلخيصها بـ :
تثبيت مكان القراءة:
فلم يعد القارئ حرًا بالمطلق في اختيار مكان القراءة، إنه مثبت أمام الشاشة وسواء كانت هذه القراءة تتم عبر جهاز كمبيوتر مكتبي وهو ما يعني التثبيت الكلي للقارئ في مكان محدد، أو عبر جهاز كمبيوتر محمول وهو ما يشكل تثبيت جزئي لأن القارئ يستطيع التجول بجهازه إلا أنه محكوم في الغالب بطريقة معينة للجلوس أمام الشاشة وعليه أن يراعي في الحالتين مصدر الضوء من خارج الشاشة وبشكل خاص الضوء الطبيعي، أي ضوء الشمس، وألا يكون هذا الضوء مسلطًا على الشاشة نفسها مما يجعل الرؤية من الشاشة غير واضحة، وهو ما تحاول شركات التقنية المنتجة للشاشات تجاوزه، وإذ لا نريد أن ندخل في أمور تفصيلية حول طريقة الجلوس أمام الشاشة، وكذلك البعد المناسب للشاشة عن العين فنشير إلى أن البعد الأمثل (وفق المعايشة) لطريقة القراءة من الشاشة هي أن تبعد العين عن الشاشة بمقدر أقل من ذراع... وكذلك تتطلب القراءة من الشاشة إراحة العين عبر الرمش المستمر أثناء القراءة أو الإبتعاد عن الشاشة كليًا بين فترة وأخرى والنظر إلى المحيط...
إن تثبيت مكان القراءة أثّر بشكل مفصلي على القارئ فأصبحت القراءة متداخلة مع عوامل فيزيولوجية أخرى، إذ أصبح القارئ بحاجة إلى أن يبتعد عن الشاشة بين فترة وأخرى لأنه لا يستطيع تغيير طريقة جلوسه إلا في الحد الأدنى، وبالتالي فتغيير مكان الجلوس ارتبط بالانقطاع عن القراءة. إذًا فإن فترة القراءة تبعًا لهذا العامل وعوامل إضافية أخرى تقل في العموم عنها في القراءة من الورق وهو ما يحتم على الصحافة الإلكترونية أن تأخذهفي الإعتبار.


استمرار الصفحة:
إن الشاشة في العموم تتسع تقريبًا لحجم صفحة من كتاب لكن الكتاب كان يضطر القارئ أن يقلب الصفحة بعد فاصل زمني محدد تبعًا لسرعة القراءة لديه، هذا الإنتقال بين صفحة وأخرى يشكل راحة للعين أولاً، وتمكنه من التوقف عبر تعليم المكان الذي وصل إليه، كما أن الكتاب عادة يكون على مرمى النظر وفي هذه الحالة، هناك حث (نفسي) على إكمال القراءة بشكل دائم. بينما عبر الشاشة تغير الأمر فحتى عبر القراءة من ملفات مرقمة الصفحات تكون هذه الصفحات متصلة والإنتقال يتم عبر تحريك محتوى الشاشة إلى أعلى أو اسفل وهو ما يشكل بصريًا إجهاد للعين في معرفة مكان وصول القراءة قبل انقطعاها لتحريك محتوى الصفحة. وإذا أخذنا بالإعتبار أن النشر الالكتروني اعتمد في الغالب على صفحة متصلة بالكامل لموضوع محدد، فإن وسائل النشر الالكترونية عليها أن تراعي هذه الخاصية في التصفح، وتحاول ما أمكن تقصير زمن قراءة الموضوع بحيث يتاح للقارئ إنهاءها في زمن معقول من جلسة قراءة واحدة من الانترنت، المحكومة بعدة عوامل، منها خاصية تثبيت مكان القراءة، كما إن عدم اكمال أي موضوع في قراءة واحدة يقود في كثير من الأحيان إلى نسيانه لأنه لا يكون على مرمى العين بشكل دائم، حتى لو تم حفظه للرجوع إليه لاحقًا، وذلك نتيجة آليات وسائل الحفظ على الشاشة. ولا تنتفي المحاولات التقنية الحثيثة لوسائل النشر الإلكتروني للتشبه بالكتاب (أنظر إيلاف ديجتال)
العلامات المؤشرة لحدود القراءة وتثبيت المراجع:
إن القارئ الورقي كانت متاحة له وسائل عديدة لتعليم المكان الذي وصل إليه خلال قراءته، حين انقطاعه عن القراءة لأي سبب كان ( قلب الكتاب وتركه على الصفحة التي وصل اليها.. ثني الصفحة كاملة أو طرفها... الخ ) وكذلك كان متاحًا للقارئ الفاحص و الناقد وسائل عديدة لمحاورة النص سواء عبر التأشير بخط أسفل جملة أو فقرة، أو كتابة هامش على الصفحة نفسها، أو عبر إضافة لصاقة على الصفحة.. وكذلك كان متاحًا له حين الاقتباس أن يشير الى الصفحة والسطر في المرجع الذي اقتبس منه، إلا أن هذا الأمر تغير مع وسائل النشر الإلكتروني، فلم يعد متاحًا للقارئ أن يعلم مكان الوصول سوى بحفظ النص كاملاً أيًّا كانت وسيلة الحفظ، وتدخل ضمن وسائل الحفظ وسيلة طباعة النص وتحويله الى ورق، وهذه الوسيلة تتيح تجزأة النص والإحتفاظ بما يريده القارئ من النص. ولم يعد متاحًا له أن يدون الهوامش سوى بنقل الصفحة إلى ملف من أحد البرامج المكتبية ( أو طباعتها وحينها تتحول الى خصائص ورقية).
كما أن مسألة الإحالة للمراجع والتي تتم الآن عبر رابط النشر، أو مكان النشر وتاريخه فاقدة لميزة رقم الصفحة، وتاليًا السطر، إلا أن الخطر الذي تواجهه مسألة الإحالة لمرجع نشر إلكتروني هو خطر إزالة المرجع من الشبكة، وهذا الخطر يتأتى من عدم احتفاظ بعض وسائل النشر الإلكتروني بأرشيف مستمر وكامل لما ينشر فيها، أو عبر اختفاء موقع النشر كاملاً... وهو ما يحتم ابتكار وسيلة إيداع لما هو منشور على الانترنت...
إن الخصائص السابقة للقراءة من الانترنت انتجت قارئًا يتميز بعدة خصائص دون أن يتخلى عن تصنيفات القارئ الاساسية بل إنها تتصل بها ويمكن إجمالها بـ:
- النزق القرائي:
فالقارئ الالكتروني هو قارئ نزق ملول لا يتمتع بالإسترخاء وهو يقرأ، وقد لا يتبع ذلك بالضرورة طبيعة المادة المقروءة والتي يتطلب بعضها استرخاءً وتدبرًا شديدًا للنص
- تسريع القراءة:
إن النشر الإلكتروني في العموم، ضاعف سرعة القراءة بشكل جيد وهذه ليست فقط نتاج نزقه بل إنها أيضًا نتجت عن تطور القراءة البصرية، فقد أتاح النشر الإلكتروني تطوير خاصية المسح البصري للنص المنشور والتحكم بمستويات القراءة فهو يتمهل عند بعض الفقرات التي تتطلب تركيزًا أو فحصًا ويسرعها في أماكن أخرى لا تتطلب ذلك...
- تخفيف السلبية:
فالميزة التفاعلية للنشر الإلكتروني تجعل القارئ يتخلى عن سلبيته تجاه النص الذي يقرأه، ويبدأ التخفف من هذه السلبية في حدها الأدنى في إعادة نشر النص عبر خاصية الإرسال لصديق أو عبر تعميمه في وسائل نشر أخرى ( بريد الكتروني – مجموعات بريدية – منتديات – تشات...) وترتفع هذه الخاصية عبر التعليق على النص ومحاورته سواء كان ذلك لتصحيح معلومة أو نفيها أو محاورة فكرة محددة في النص أو مناقشة فحواه أو متابعة تفاصيل لم ترد في النص المذكور وبالتالي أصبح هذا القارئ مشاركًا بشكل حقيقي وفاعل في انتاج النص.. ويمكن لنا أن نلاحظ أن بعض القراء يضيفون تفاصيل لخبر منشور لم ترد في الخبر الاساسي وتكون فاعلة في مادة الخبر الاساسية، أو في متابعة تطورات حدث، بشكل مستمر من القراء..

إن المتابع للصحافة الإلكترونية العربية ( بشقها الورقي / الالكتروني، أو الالكتروني ) سيجد أنها تهدر بعض الميزات التي اتاحتها وسيلة النشر هذه، لأنها في الغالب قادمة من تصور ورقي، لم يدرج خصائص القراءة والقارئ الالكتروني بالحسبان، وهو ما يقلل نسبة توطين القارئ لدى هذه الصحف أولاً، وكذلك يقلل فاعليتها في إخراجه من سلبيته وجعله مشاركًا في انتاج النص.


اخوكم وصديق المنتدة محمد عادل